بقلم الروائي و الناقد حسن الموسوي
الهباشون و مفردها هبش ، و هو الشخص غير السوي و ذو سلوك غير سوي و هذا العنوان على فصيلة سيبندية و هتلية و هذه أسماء روايات لشوقي كريم حسن أيضا .
و مثلما تفرد شوقي كريم حسن في اسلوبه في الكتابة فلقد تفرد في دقة اختياره للعناوين الغريبة التي لم يسبقه إليها أحد من الكتاب .و تعد بعض العناوين غريبة ، ولغرابتها فقد أطلق عليها بعض النقاد بعناوين الزمن الجديد ، و قد أصبحت العناوين الغريبة ظاهرة تستدعي الوقوف عندها و دراستها ، ليس في الرواية وحدها ، بل في المجاميع القصصية و الشعرية .
و اعتقد ان الغاية منها هو التميز و التفرد ، فنحن نجد أمثلة كثيرة لعناوين غريبة ارتبطت بإسم كاتبها .

و من خلال العنوان يتكون لدى القارئ انطباعا أوليا عما يحتويه المتن السردي ، و كأن المتن السردي عبارة عن لغز و يكون العنوان مفتاح هذا اللغز ، و كذلك يعمل العنوان على كشف مغاليق المتن السردي .
يميل أكثر الأدباء الى التميز و الإنفراد ليس في العراق فقط و انما في كثير من دول العالم ، حيث انهم يتعمدون أن يستخدموا عناوين غريبة في محاولة منهم لشد انتباه القارئ لكتبهم الأدبية باعتبار أن العنوان هو عتبة نصية و هو يختزل كل المتن بعدة كلمات .
و قد وصف العنوان في دراسة الأعمال الأدبية من قبل النقاد على انه ( نص موازي ، مفتاح جمالي ، عتبة نصية ، علامة سيميائية ) و تقوم بوظيفة الاحتواء لمدلول النص .
يعرف عن الروائي شوقي كريم حسن بأنه كاتب غزير الإنتاج ، فهو قد كتب عن أدق التفاصيل في المجتمع العراقي ، و قد عايش فترات سياسية صعبة و كان ضحية للعبة السياسية التي تدوس كل من يقف في طريقها ، يقول الروائي الأمريكي آرنست همنغواي ( اذا أردت أن تكتب عن الحياة فعليك ان تعيشها أولا )
و السؤال الذي يتبادر الى الأذهان هو لماذا نكتب ؟
يقول ماركيز أكتب لكي يحبني أصدقائي
و تقول نوال السعداوي أكتب لأن هذا العالم يغضبني و لا يرضيني
يقول الناقد العراقي اسماعيل ابراهيم عبد ان أي رواية لا تهتم بالفكر و الناس ليس لها مبرر وجودي أو فني ، و ان أي رواية تصاغ بقدرة فنية و فكرية متفردة هي مغامرة جدية لن يغطيها غبار الإهمال .
نجد في بداية هذه الرواية تحذيرا يطلقه الكاتب ، حيث يقول ( ما يملأ هذه الدنيا قد لا يحدث أبدا ، و قد نرى فيه اكاذيبا لا تمنح النفس الحيوية جدوى الاستمرار .. و لكن ما أنا متأكد منه ، ان الحياة أمر لا يطاق ، لمن ليس له في كل لحظة حماس يبهر .
ان في أعماقنا التي يبسها الهم كثير من الحماس الذي يدفعنا الى ولوج حياة الأكاذيب الجميلة ، بعدها احذر من لعبة الصمت ) ص5
و في المقدمة و هي من العتبات النصية نجد حكمة للكاتب برنادشو يقول فيها ( سواء ولدت مجنونا ، أو على قدر متوسط من العقل فإن مملكتي ليست في هذا العالم ، و إني لم أحس بالطمأنينة إلا في عالم مخيلتي ) ص6 .
في مطلع الرواية نجد ( لحظة أغمض عينيه صرخت غربان الفضاء المضمخ بالحزن ، ـ قد تكون هي البداية ، ماجت الألسن بإستذكار و نبوءات و تكهنات ملأت حياته التي امتدت الى آلاف من الأسئلة الحائرة بين جواب الاستحسان و رفض الخطوات الرلسمة لهمم البوح ، قالوا و لقولهم رنين الفضة ، ـ لم يمت إلا لأنه أراد ) ص 7 .
هذه الثيمة هي نفسها في رواية سابقة لشوقي كريم حسن و يبدو انه مهووسا بفكرة الموت ، تلك الفكرة التي شغلت بال الفلاسفة و أخذت منهم جهدا كبيرا من أجل ان يكتبوا عنها .
و رغم ضبابية المشهد و عدم إدراك ماهية الموت ، إلا أن الحقيقة الوحيدة الثابتة ان كل السفن قد غرقت ، وحدها سفن الموت من تصل الى مرافئ حياتنا بانتظار ان تحملنا رغما عنا الى المجهول .
و لكن ما يخفف من وطأة الموت هو أن الحياة أصبحت لا تطاق و ان تمني الموت هو الوسيلة الوحيدة للخروج من متاهات هذه الحياة .
ان خشية الناس من الموت يعود إلى عدم معرفتهم بالذي ينتظرهم بعد الموت ، و لعلها حياة أفضل من جحيم الدنيا و عذاباتها .
و الحكمة في إخفاء ما ينتظر الناس بعد الموت هو بسبب عدم دفع البشرية الى الفناء ، فإذا كانت الحياة بعد الموت أفضل من حياتنا هذه لبادر الجميع و خصوصا الفقراء و ما أكثرهم إلى إنهاء حياتهم من أجل الوصول إلى حياة أفضل .
و في هذه الرواية كما في روايات سابقة و ربما في المستقبل لروايات أخرى تكون ثيمة الموت و ما ينتظر الميت من أحداث هي مادة الروي الرئيسية .
و هنا يتساءل من يقرأ أعمال شوقي كريم حسن عن السبب في تناول ثيمة الموت في العمل الأدبي و في أكثر من رواية ، حتى باتت ثيمة الموت السمة الأبرز لتلك الأعمال .
هل لأن الكاتب يعيش في حالة قلق أو خوف من الموت ؟
أم هي محاولة للكتابة عن شيء لا يعلمه أحد ، و هذا يعد من الاستشراف ، فلا أحد قد ذهب الى عالم ما بعد الموت ثم رجع كي يروي لنا ما حصل له .
ان حقيقة حتمية الموت تجعل من التطرق لهذه الحتمية من أجل اعلان رضوخنا و استسلامنا لهذه الحتمية المؤكدة .
و لعل الكتابة عن الموت هي محاولة للتعايش معه و التقليل من سطوته و عقد صفقة تأجيل موعد قبض الروح و لو الى حين .
ثم ان الكتابة عن مرحلة ما بعد الموت و ما يشهده الميت من محاكمة عادلة تعيد له ما فقده في حياته السابقة يعد محاولة لتقبل الموت و أحيانا انتظارا له .
يقول نابليون بونابرت ( لا يعني الموت شيئا ، لكن أن تعيش مهزوما و ذليلا يعني ان تموت يوميا ، يجب ان تحب الحياة و تعرف كيف تموت ).
و يقول غاندي ( في غمرة الموت تستمر الحياة ، و في غمرة الكذب تستمر الحقيقة ، و في غمرة الظلام يستمر الضوء ) .
و المفارقة الكبيرة في هذا الموضوع ان كثير من الناس قد حاولوا أن يعرفوا أي شيء عن الموت في الوقت الذي لا يعرفون الحياة على حقيقتها رغم انهم عاشوها بطولها و عرضها ، يقول كونفوشيوس ( عندما لا ندري ما هي الحياة ، كيف يمكننا ان نعرف ما هو الموت ) .
يقول الشاعر آلان بوسكيه في قصيدة له عن الموت
للمرة الأولى ، يكتب كلمة موت
يرتعد رعبا
للمرة الثانية ، يكتب كلمة موت
يرتجف
يرتجف قليلا
للمرة الثالثة ، يكتب كلمة موت
يتمالك نفسه
للمرة العاشرة ، يكتب كلمة موت
يتعقل ، يشعر بسلام
للمرة العشرين ، يكتب كلمة موت
و ها هي كلمة محببة جدا
للمرة المائة ، يكتب كلمة موت
كما يكتب نوم ، كما يكتب حصان
كما يكتب محيط أو موسيقى
للمرة الألف ، يكتب كلمة الموت
ليمنع الموت
و كي لا يباغته فجأة
و من هنا يتضح ان كثرة الكتابة عن الموت تجعل الكاتب في حالة تعايش وقتي مع الموت ، و ان الخلاص يكمن في عدم الخوف من الموت ، حيث يقول الكاتب ( ما خفت موتي يوما .. و لا أظني أخافه أبدا .. كنت منذ أزلي اقترب منه فينفر مني مثل فرس جموح ما سرنا دربا واحدا .. و ما سكن و إياي في بيت ، كنت أراه مثل أقزام التهريج لا وجود لهم غير لحظات الضحك ) ص 220 .
يستخدم الكاتب اسلوب أنسنة الأشياء بحيث يجعل القبر يتكلم و القبر من الجمادات ، و الأنسنة تقنية فنية يستخدمها الأدباء كي يقوم الجماد بالكلام لغاية تقتضيها الضرورة السردية ، و تعرف الأنسنة أيضا ( تحويل الجمادات الى بشر يحسون و يشعرون ) ، يقول الكاتب ( قال القبر بصوت مخنوق ـ إصرار جنونك على الابتعاد ، قال ـ ما فائدتي وسط طوفان يدمر آمالنا ، قال القبر ـ و ما فائدة ابتعاد لا يؤسس شيئا ، قال ـ ما لك تنكر علي محاولتي ، قال القبر ـ و ما لك تنكر على الناس حبهم و رغبتهم بالانتماء إليك ، قال ـ لا أريد لهم دروبا تحفها الظلمة ، قال القبر ـ وحدك بخطو العاجز لا يمكن ان تطرد عتمة طريقي ، قال ـ و لهذا جئت إليك ) ص 67 .
و كما هي رحلة البحث عن ماهية الموت نجد مسارا آخرا يتمثل بمعرفة الوجود ، و الوجود و الفناء هي من الأسئلة التي شغلت تفكير كثير من الناس و حتى الفلاسفة فقد كرسوا جل وقتهم من أجل فك شفرة الثنائيات و أعني ثنائية الحياة و الموت و ثنائية البقاء و الفناء و كثير من الثنائيات .
و تعرف الوجودية على انها مدرسة فلسفية يكون الانسان محورها ، و ان للفرد حرية اختيار الحياة التي تناسبه ، يقول الكاتب ( أي المعارف كنت تريد ، ـ أنواع تؤسس حضور انساني الباحث عن طرق خلاص ، ـ بحث صعب و إجابة خطرة .. و بعد ، ـ كنت أسعى لمعرفة الجوهر ، ـ ها .. لكن الجوهر ليس معرفة ، ـ ماذا ، من قال ما تقول ، ـ هذا ما أعرفه أنا ، ـ معرفتك خطأ الجوهر معرفة لماهيته ، ـ ها أنت تعرف .. فلم جئت ، ـ زيادة الاتيان بالشيء .. و محاولة لسبر غور الآتي ) ص113 .
تعد هذه الرواية من أدب الديستوبيا و ما يعرف بأدب المدن غير الفاضلة أو عالم الواقع المرير أو أدب المدينة الفاسدة ، و قد استطاع الكاتب بمهارة ان يقتحم عوالم هذه المدن من خلال الهباشين و ينقل لنا معاناة ضحايا هذه المدن البائسة .
و الديستوبيا كلمة يونانية و تعني المكان الخبيث و هي عكس المكان الفاضل اليوتوبيا .
و غالبا ما تنشأ المدن غير الفاضلة بعد الحروب و الكوارث ، أو عندما تكون الحكومات متسلطة و مستبدة و تحكم الشعب بالحديد و النار ، أو عندما تكون الحالة الاقتصادية للبلد شبه منهارة .
أما في الانكليزية فالديستوبيا المجتمع الخيالي الفاسد ، أو مجتمع غير مرغوب فيه .
و في هذه الرواية هل الأحداث الصعبة هي التي دفعت بالمجتمع الى منزلقات الفساد و الرذيلة أم ان الهباشون هم من يتحملون مسؤولية ذلك .
يضطلع الكاتب بمهمة كبيرة ، فهو يسلط الضوء على ما يطلق عليه بأدب التخلف و أدب الجنس و أدب الجهل و أدب الخراب و هذا لا يتعارض مع المهمة السامية للكاتب بإعتبار ان له تصور كبير عن الواقع ، فالخوض في غمار هذه المجتمعات المليئة بالرذيلة هو من أجل إيجاد حلول ناجعة لهذه الممارسات المنحرفة .
حيث تم وصف المثقف بأنه (هو كل من كان له تصورا عن الواقع و العالم ) .
كل شيء مباح في المدن غير الفاضلة ، حيث نجد الصراع الدموي المميت ، و الجميع مهووسون بمراقبة طرفي الصراع ، فلا رحمة في هذا النزال و حسب قوانين مدن الرذيلة ، ففيه إما المنتصر أو المقتول .
ان من يقوم بزعامة هكذا عصابات و حتى أعوانه ، فهم مهووسون بمنظر الدم و هذا بسبب شعورهم بظلم المجتمعات لهم و الظروف المعيشية الصعبة التي دفعتهم إلى عالم الإجرام ، يقول الكاتب (ظل محمد كلثومة ينظر الخطى التي ابتعدت و بعد أن تأكد من تلاشي رنينها في ظلمة الحجر التي غدت فجأة تصيح بنحيب مكتوم ، حرك السكين المغسولة بالدم حركات بهلوانية متقنة و رماها باتجاه الأرض ) ص181 .
يتطرق الكاتب إلى الممارسات اللا أخلاقية كالمتاجرة بالمخدرات و تعاطيها ، يقول الكاتب ( ـ أريدك ساعدي الأيمن ، قلت متسائلا ـ فيم ؟ ،
ـ التجارة .. هنا كل شيء معروض للبيع حتى الاشات ) ثم يقول ( ـ و ما مطلوب مني ، ـ الأمر في غاية البساطة .. عشر شواجير من فئة العشرين حباية يوميا ) ص 182 .
يتحدث الكاتب عن اللواط و كيف يتم السيطرة على الضحية من خلال الإدمان على المخدرات ، يقول الكاتب ( ـ ليس أنا الذي يريد .. بل عملنا و إنقاذ جسدك حين تجتاز محنة بلع الأقراص لن يقدر أحد مهما كان قويا بالسيطرة عليك ، أنت تعرف ألاعيبهم جيدا ، فالتخدير وسيلة من أجل الوصول إلى غاية ما نريد ) ص201 .
في أغلب روايات شوقي كريم حسن كانت المرأة هي المحفزة للبطل بحيث كانت تمنحه نشوة الحياة رغم المآسي المحيطة بها ، نجد ذلك في رواية ثغيب حينما مارست المرأة الحب مع رجل ساعدها في دفن جثة زوجها ، بعد ان عجزت هي عن فعل ذلك .
و في هذه الرواية نجد صبرية التي منحت عمران الحب الذي كان ينشده .
رواية هباشون هي ملحمة اجتماعية تستعرض لنا ما يتعرض له البسطاء من الناس من ظلم في مجتمع يرفع شعار البقاء للأقوى .
و لعل ان الروائي قد جند نفسه لأن يكون اللسان الناطق للمعدمين و الفقراء ، و هو لا يريد الطعن بهم ، بل إبراز همومهم و مشاكلهم إلى الواجهة من أجل إيجاد الحلول الناجعة لهم وصولا الى الحياة الحرة الكريمة في مجتمع يسوده الحب و الوئام و يتمتع الجميع فيه بالحقوق و المساواة .
بقي أن أشير إلى أن هذه الرواية هي من إصدارات منشورات الاتحاد العام للأدباء و الكتاب في العراق و تتكون من 224 صفحة و من القطع المتوسط .